-->
28167049391839450

الوسواس القهري الديني - الجزء الثاني

الخط
فصـــــل

ومن ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصلى وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب، فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها(56) متفق عليه وهو دليل على جواز الصلاة في ثياب المربية والمرضع والحائض والصبى، ما لم يتحقق نجاستها(57).
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل وأنا إلى جنبه، وأنا حائض وعلى مرط(58) وعليه بعضه(59) رواه أبو داود.
وقالت: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار(60) الواحد، وأنا طامث- حائض - فإن أصابه منى شىء غسل مكانه، ولم يعده وصلى فيه(61) رواه أبو داود.

فصـــــل
ومن ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يلبس الثياب التى نسجها المشركون ويصلى فيها.
ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية (دمشق)(62) استعار ثوبا من نصرانى فلبسه، حتى خاطوا له قميصه وغسلوه(63) وتوضأ من جرة نصرانية(64).
وصلى سلمان وأبو الدرداء رضى الله عنهما في بيت نصرانية، فقال لها أبو الدرداء: هل في بيتك مكان طاهر فنصلى فيه؟ فقالت:طهرا قلوبكما ثم صليا أين أحببتما. فقال له سليمان: خذها من غير فقيه(65).
فصـــــل
ومن ذلك أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض والأوانى المكشوفة، ولا يسألون هل أصابتها نجاسة أو وردها كلب أو سبع؟ ففي الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا، فقال عمرو: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر رضي الله عنه: لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا(66).
ومن ذلك أنه لو سقط عليه شئ من ميزاب، لا يدرى هل هو ماء أو بول؟ لم يجب عليه أن يسأل عنه. فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجبيه. ولو علم أنه نجس، ولا يجب عليه غسل ذلك(67).
ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما فسقط عليه شئ من ميزاب ومعه صاحب له، فقال: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر رضي الله عنه:     يا صاحب    الميزاب    لا تخبرنا،
 ومضى(68) ذكره أحمد.
قال شيخنا: وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شئ رطب ولا يعلم ما هو لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو. واحتج بقصة عمر رضي الله عنه في الميزاب، هذا هو الفقه، فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها، وقبل ذلك هى على العفو، فما عفا الله عنه فلا ينبغى البحث عنه.
فصـــــل
ومن ذلك الصلاة مع يسير الدم ولا يعيد(69).
قال البخارى: قال الحسن رحمه الله: مازال المسلمون يصلون في جراحاتهم. قال: وعصر ابن عمر رضي الله عنه بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ. وبصق ابن أبى أوفي دماً ومضى في صلاته. وصلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثعب دماً(70).
ومن ذلك أن المراضع مازلن من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن يصلين في ثيابهن، والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، فلا يغسلن شيئا من ذلك، ولأن ريق الرضيع مطهر لفمه لأجل الحاجة، كما أن ريق الهرة مطهر لفهمها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات](71) وكان يصغى لها الإناء حتى تشرب(72) مع العلم اليقيني أنها تأكل الفأر والحشرات. ومن ذلك أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهو حاملوا سيوفهم، وقد أصابها الدم، وكانوا يمسحونها ويجتزئون بذلك وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها.
 ومن ذلك أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس، ثم تجففه الشمس، فينشر عليه الثوب الطاهر، فقال: لا بأس به(73).
ومن ذلك أن الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن كان يسيرا(74).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شئ(75) رواه الإمام أحمد.
وقال البخارى: قال الزهرى: لا بأس بالماء ما لم يتغير منه طعم أو ريح أو لون.
ونص أحمد رحمه الله في حب زيت ولغ فيه كلب، فقال: يؤكل.

فصـــــل
ومن ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجيب من دعاه فيأكل من طعامه، وأضافه يهودى بخبز شعير وإهالة سنخة (دسم جامد متغير الريح). وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب.
وشرط عمر رضي الله عنه عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وقال: أطعموهم مما تأكلون.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقبل ابنى ابنته في أفواههما(76) ويشرب من موضع فم عائشة رضي الله عنها، ويتعرق العرق (يأخذ اللحم من العظم بأسنانه) فيضع فاه على موضع فيها، وهى حائض. رواه مسلم.
وحمل أبو بكر رضي الله عنه الحسن على عاتقه ولعابه يسيل عليه(77).
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبى، فوضعه في حجره، فبال عليه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله(78).
وقد ذم النبى صلى الله عليه وسلم المتنطعين في الدين وأخبر بهلكتهم حيث يقول: ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون(79).
وكان صلى الله عليه وسلم يبغض المتعمقين حتى إنه لما واصل بهم ورأى الهلال، قال: لو تأخر الهلال لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم- كالمنكل بهم(80)
وكان الصحابة أقل الأمة تكلفاً إقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ] [ص: 86].
وقال أنس رضي الله عنه كنا عند عمر رضي الله عنه فسمعته يقول:نهينا عن التكلف (البخارى).

فصـــــل
ومن ذلك الوسوسة في مخارج الحروف والتنطع فيها، فتراه يقول: الحمد الحمد، فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة وتارة في تحقيق التشديد في إخراج ضاد المغضوب.
قال ابن الجوزى: ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده. ويخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق، ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة، وكل هذه من الوساوس، والمقصود أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف، ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته.

فصـل
 الجـواب عما احتـج به أهـل الوسـواس
أما قولهم: إن ما نفعله احتياط لا وسواس قلنا سموه ما شئتم. فنحن نسألكم:
هل هو موافق لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وما كان عليه أصحابه أو مخالف؟
وينبغى أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها، فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك، وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة.
وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النـزاع الذي اختلف فيه الأئمة، كطلاق المكره، وطلاق السكران، والبتة، وجمع الثلاث، والطلاق بمجرد النية، والطلاق المؤجل المعلوم مجىء أجله، وإليمين بالطلاق، وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء، إذا أوقعه المفتى تقليداً بغير برهان، وقال ذلك احتياطاً للفروج، فقد ترك معنى الاحتياط، فإنه يحرم الفرج على هذا ويبيحه لغيره. فأين الاحتياط ها هنا؟ بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له، أو يأتى برهان من الله ورسوله على ذلك لكان قد عمل بالاحتياط. قال شيخنا: والاحتياط حسن ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السنة فإذا أفضى إلى ذلك، فالاحتياط ترك هذا الاحتياط. فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس.

فصـــــل
أما من شك هل انتقض وضوءه أم لا؟ قال الجمهور منهم الشافعى(81) وأحمد(82) وأبو حنيفة(83) وأصحابهم ومالك: إنه لا يجب عليه الوضوء، وله أن يصلى بذلك الوضوء أو الذي تيقنه وشك في انتقاضه، كما لو شك هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة؟ فإنه لا يجب عليه غسله.

  فصـــــل
وأما قول البعض: إن من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله، فليس هذا من باب الوسواس. فإنه قد وجب عليه غسل جزء من ثوبه ولا يعلمه بعينه، ولا سبيل إلى العلم بأداء هذا الواجب إلا بغسل جميعه.

فصـــــل
وأما مسألة الثياب التى اشتبه الطاهر منها بالنجس، فقال الجمهور ومنهم أبو حنيفة(84) والشافعى(85) ومالك في رواية له(86):
أنه يتحرى فيصلى في واحد منها صلاة واحدة كما يتحرى في القبلة.
فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منه فصلى فيه، لم يحكم ببطلان صلاته بالشك، فإن الأصل عدم النجاسة، وقد شك فيها في هذا الثوب، فيصلى فيه كما لو استعار ثوبا أو اشتراه ولا يعلم حاله.

فصـــــل
وأما إذا اشتبهت عليه القبلة فالذي عليه أهل العلم كلهم أنه يجتهد ويصلى صلاة واحدة(87)، وأما من شك في صلاته، فإنما يبني على اليقين لأنه لا تبرأ ذمته منه بالشك.  فإذا اشترى رجل ماءً أو طعاماً أو ثوباً لا يعلم حاله جاز شربه وأكله ولبسه، وإن شك هل تنجس أم لا؟ فإن الشرط متى شق اعتباره، أو كان الأصل عدم المانع، لم يلتفت إلى ذلك، وإذا أتى بلحم لا يعلم هل سمى عليه ذابحه أم لا؟ وهل ذكاه في الحلق واللبة، واستوفي شروط الذكاه أم لا؟ لم يحرم أكله لمشقة التفتيش عن ذلك. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن ناساً من الأعراب يأتوننا باللحم لا ندرى أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا أنتم وكلوا(88) مع أنه قد نهى عن أكل ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى.

فصـــــل
وأما قولكم: إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال، وتمشية الأمر كيف اتفق إلى آخره، فلعمر الله إنهما لطرفا إفراط وتفريط، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع، كقوله: [وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ] [الإسراء: 29] [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً] [الاسراء: 26]، [وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً] [الفرقان:67]، وقوله: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] [الأعراف: 31] فدين الله بين الغالى فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهى الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها، قال الشاعر:
         كانت هى الوسط المحمى فاكتنفت
                                                           الحوادث حتى أصبحـت طرفا
    (انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى، باختصار) .
وقد رأيت تميماً للفائدة وزيادة للفهم في معرفة الفارق بين وساوس الشيطان والوسواس القهرى أن أكتب ملخصاً من كلام بعض علماء السلف عن وساوس الشيطان وكيفية الخلاص منها.

معرفة مكائد الشيطان ومصائده والحذر من وساوسه ودسائسه(89)
قال العلامة ابن مفلح المقدسى رحمه الله:
اعلم أن الشيطان يقف للمؤمنين في سبع عقبات، عقبة الكفر، فإن سلم منه ففي عقبة البدعة، ثم في عقبة فعل الكبائر، ثم في عقبة فعل الصغائر، فإن سلم منه ففي عقبة فعل المبيحات فيشغله بها عن الطاعات، فإن غلبه شغله بالأعمال المفضولة عن الأعمال الفاضلة، فإن سلم من ذلك وقف له في العقبة السابعة، ولا يسلم منها المؤمن إذ لو سلم منها أحد لسلم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى تسليط الأعداء الفجرة بأنواع الأذى(90).
      فلا شك في أن معرفة العقبات التى يقف عندها الشيطان، ومعرفة مداخله إلى قلب ابن آدم مما يعين على الحذر منه، وأولى من ذلك بالذكر أن تعرف أن الشيطان عدو لبنى آدم فلا يمكن أن يأمره بخير أو ينهاه عن شر. قال الله تعالى: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] [فاطر: 6].
وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّبعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحشَاءِ وَالْمُنكَرِ] [النور: 21].
قال أبو الفرج ابن الجوزى:
[إنما يدخل إبليس على الناس بقدر ما يمكنه، ويزيد تمكنه منهم ويقل على مقدار يقظتهم، وغفلتهم وجهلهم، وعلمهم، واعلم أن القلب كالحصن، وعلى ذلك الحصن سور، وللسور أبواب، وفيه ثلم(91)، وساكنه العقل، والملائكة تتردد على الحصن، وإلى جانبه ربضٌ(92) فيه الهوى، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع، والحارس قائم بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم، فينبغى للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكِّلَ بحفظه وجميع الثلم، وأن لا يفتر عن الحراسة لحظة فإن العدو ما يفتر].
قال رجل للحسن البصرى: أينام إبليس؟ قال: لو نام لوجدنا راحة، وهذا الحصن مستنير بالذكر مشرق بالإيمان، وفيه مرآة صقيلة يتراءى بها صور كل ما يمر به، فأول ما يفعل الشيطان في الربض إكثار الدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة، وكمال الفكر يرد الدخان، وصقل الذكر يجلو المرآة، وللعدو حملات فتارة يحمل فيدخل الحصن فيكر عليه الحارس فيخرج، وربما دخل فعاث(93)، وربما أقام لغفلة الحـارس، وربما ركدت الريح الطاردة للدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة فيمر الشيطان ولا يدرى به، وربما جرح الحارس لغفلته وأسر واستُخِدم(94).

واعلم أن أول ما يغوى به الشيطان ابن آدم الوساوس التى يوسوس بها إليه، كما قال تعالى آمراً بالاستعاذة بالله عز وجل من وساوسه:
[قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِك النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] [سورة: الناس].
فإذا غفل القلب عن ذكر الله عز وجل جثم عليه الشيطان وأخذ يوسوس إليه بالذنوب والمعاصى، فإذا ذكر الله عز وجل واستعاذ به انخنس الشيطان وانقبض، وإذا كره ما وسوس به فإن ذلك محض الإيمان، عن أبى هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: [وقد وجدتموه؟] قالوا: نعم. قال: [ذلك صريح الإيمان](95).

قال ابن القيم رحمه الله:
[الوسوسة هى مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغاً من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه فتصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمنى ويشهى وينسى علمه بضررها ويطوى عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مدداً لهم وعوناً، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا] [مريم: 83]. أى تزعجهم إلى المعاصى ازعاجاً كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة].

فأصل كل معصية وبلاء إنما هى الوسوسة(96). (والمقصود وساوس الشيطان)
فمهما كان العبد مشغولاً بالطاعات وذكر الله عز وجل فإنه لا يكون عند ذلك محلاً للوساوس فإذا غفل عن الذكر والطاعة وسوس إليه الشيطان بالمعاصى كما قال ابن القيم رحمه الله: إذا غفل القلب ساعة عن ذكر الله جثم عليه الشيطان وأخذ يعده ويمنيه.

وأختم هذا الفصل بما يستعان به من طاعة الرحمن الرحيم حتى يحفظ العبد نفسه من وساوس الشياطين:
1- الاستعاذة بِالله قال الله تعالى: [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزغ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ] [الأعراف: 201].
وعن سليمان بن صُرد قال: كنت جالساً مع النبى صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: [إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد](97).
- قراءة المعوذتان فقد قال صلى الله عليه وسلم: [لم يتعوذ الناس بمثلهن](98).
3- قراءة آية الكرسى عند النوم كما في حديث أبى هريرة فمن قرأها عند نومه لا يزال عليه من الله حافظ لا يقربه شيطان.
4- قراءة سورة البقرة، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم [إن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان](99).
5- خاتمة سورة البقرة، عن أبى مسعود الأنصارى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه](100).
6- [لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير] مائة مرة من قرأها في يوم كانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك .
7- كثرة ذكر الله فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله تعالى.
8- الوضوء والصلاة قال ابن القيم: وهذا أمر تجربته تغنى عن إقامة الدليل عليه.
9- إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة.(101)

نموذج الاتصال
الاسمبريد إلكترونيرسالة