تأتى أهمية هذا الفصل في أنه يخوض غمار الوساوس الدينية التى يعاني منها الكثيرون ويخجلون من الإفصاح عنها. وقد يبالغون في اتهام أنفسهم بالكفر والإلحاد والخروج من الملة وذلك لقلة علمهم الديني والنفسي.
وقد أدلى بعض العلماء الأفاضل بدلوهم في تشخيص وعلاج الوساوس الدينية قبل الأطباء المعاصرين ونجحوا إلى حد ما في التشخيص والعلاج. ومن أبرز هؤلاء الإمام ابن القيم(1) رحمه الله في كتابه القيم [إغاثة اللهفان]، الذي رأيت من المفيد أن أعرض تلخيصاً للجزء الخاص بالوساوس مع بعض التعليقات القليلة والمفيدة عليه، وقد وضعت كلامى بين قوسين (....).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
الوسواس الذي كاد (المرضى) في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره.
(وقد وصل الأمر مع البعض) أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله لم يطهر ولم يرتفع حدثه. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع(2).
والموسوس يري أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه. وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة،(3) ولم يزد علي ثلاث، بل أخبر أن: [من زاد عليها فقد أساء وتعدى و ظلم](4)
والموسوس مسىء بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسىء به وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من قصعة(5) بينهما فيها أثر العجين(6) ولو رأي الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار، وقال: ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين، كيف والعجين يحلله الماء فيغيره! هذا والرشاش ينـزل في الماء (7). وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة مثل ميمونة(8) وأم سلمة(9) وهذا كله في الصحيح.
وثبت أيضا في الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه قال: كان الرجال والنساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضئون من إناء واحد(10). والآنية التى كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها كأنبوب الحمام ونحوه. ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجرى الماء من حافاتها كما يراعيه من ابتلى بالوسواس فهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته، جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة. ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده، ولم يمكن أحداً أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة.
ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان.وقال الإمام أحمد(11): من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء. وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه توضأ من إناء فأدخل يده فيه ثم تمضمض واستنشق،(12) كذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ويتناول الماء منه(13) والموسوس لا يجوز ذلك، ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك.
وقال أهل الاقتصاد والاتباع: قال الله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَإليوْمَ الآْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ] [آل عمران: 31] وقال تعالى:
[وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [الأعراف: 158]، وقال تعالى: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأنعام: 153].
[وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] [الأعراف: 158]، وقال تعالى: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [الأنعام: 153].
وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو قصد السبيل، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة.
ونحن نسوق من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه ما يبين النهى عن الغلو وتعدى الحدود والإسراف، وأن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين.
قال الله تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ] [المائدة: 77]. وقال تعالى: [وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] [الأنعام: 141]. وقال تعالى: [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا] [البقرة: 229]، وقال تعالى: [وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ][البقرة:190]، وقال تعالى: [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] [الأعراف: 55]، وقال أنس رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم] (14)
فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه. كفعل أهل الوسواس شددوا على أنفسهم حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم. قال البخارى: وكره أهل العلم الإسراف فيه - يعنى الوضوء - وأن يجاوزوا فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عمر رضى الله عنهما: إسباغ الوضوء الإنقاء(15). فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة.
فصـــــل
ثم إن الموسوسين، رغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا تؤضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صلى كصلاته فوضوءه باطل وصلاته غير صحيحة، ويرى أنه إذا فعل مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواكلة الصبيان(16) وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجسا يجب عليه تسبيع يده وفمه كما لو ولغ فيهما أو بال عليهما هر.
وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره، ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه، ثم يشك هل فعل ذلك أم لا؟ وكذلك شكه في نيته وقصده التى يعلمها من نفسه يقينا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله.
ومع هذا يقبل قول (الوسواس) في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها، حتى تراه متلددا(17) متحيرا كأنه يعالج شيئا يجتذبه، أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه. ثم إنه (يعذب) نفسه، (ويضر) بجسده، تارة بالغوص في الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك(18)، وربما فتح عينيه في الماء البارد وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه.
قلت: ذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن أبى الوفاء ابن عقيل أن رجلا قال له: ]أنغمس في الماء مرارا كثيرة، وأشك هل صح لى الغسل أم لا؟ فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف قال: لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [رفع القلم عن ثلاث: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبى حتى يبلغ](19) ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا، فهو مجنون (والمقصود هنا هو الزجر والسخرية) قال: وربما شغله وسواسه حتى تفوته الجماعة.
وربما فاته الوقت، ويشغله (الوسواس) في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أو أكثر. ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا (فيغلبه وسواسه).
وحكى لى من أثق به عن موسوس عظيم - رأيته أنا - يكرر عقد النية مرات عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له إن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة، فلم يدعه الوسواس حتى زاد ففرق بينه وبين امرأته، فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين دهراً طويلا، حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد، ثم إنه حنث في يمين حلفها ففرق بينهما، وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها.
وبلغنى عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك، فاشتد به التنطع والتقعر يوماً إلى أن قال: أصلى أصلى مراراً صلاة كذا وكذا، وأراد أن يقول: أداء، فأعجم الدال، وقال أذاء لله، فقطع الصلاة رجل إلى جانبه، فقال: ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين.
قال: ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مراراً.
قال: فرأيت منهم من يقول: الله أكككبر قال: وقال لى إنسان منهم:
قد عجزت عن قول السـلام عليكم، فقلت له: قل مثل ما قد قلت الآن وقد استرحت.
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم. وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً ما كان، فإنه لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم، ومن شك في هذا فليس بمسلم (وليعالج نفسه).
ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقتد بهم وليختر طريقهم.
وقال زين العابدين يوماً لابنه: يا بنى اتخذ لى ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإنى رأيت الذباب يسقط على الشئ ثم يقع على الثوب، ثم انتبه فقال: ما كان للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد، فتركه.
وكان عمر رضى الله عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له: لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهم خير الخلق وأفضلهم.
فصـــــل
النية في الطهارة والصلاة
النية هى القصد والعزم على فعل الشئ، ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلا. ولذلك لم ينقل عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال، ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك، وهذه العبارات التى أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس، يحبسهم عندها، ويعذبهم فيها، ويوقعهم في طلب تصحيحها، فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها، وليست من الصلاة في شىء. وإنما النية قصد فعل الشئ، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء. ومن قام ليصلى فقد نوى الصلاة. ولا يكاد العاقل يفعل شيئا من العبادات ولا غيرها بغير نية، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقينى، فكيف يشك فيه عاقل من نفسه؟ ومن قام ليصلى صلاة الظهر. خلف الإمام فكيف يشك في ذلك؟ ولو دعاه داع إلى شُغْلٍ في تلك الحال لقال: إنى مشتغل أريد صلاة الظهر، ولو قال له قائل في وقت خروجه إلى الصلاة: أين تمضى؟ لقال: أريد صلاة الظهر مع الإمام، فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقيناً؟ بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال، فإنه إذا رأى إنسانا جالسا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة، وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلى، فإن تقدم بين يدى المأمومين علم انه يريد إمامتهم، فإن رآه في الصف علم أنه يريد الائتمام. قال: فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال، فكيف يجهلها من نفسه مع اطلاعه هو على باطنه؟
قال: ومن العجب انه يتوسوس حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشى فوات الركوع كبر سريعا وأدركه، فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة؟ فإن قال:هذا أمر بليت به، قلنا: نعم (وعليك بالعلاج).
قال شيخنا: ومن هؤلاء من يأتى بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلى صلاة الظهر، فريضة الوقت، أداء لله تعالى، إماما أو مأموما، أربع ركعات، مستقبل القبلة، ثم يزعج أعضاءه ويحنى جبهته و يقيم عروق عنقه، ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو. ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت، فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه، ولدلونا عليه.
قال: ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة مثل تكرار بعض الكلمة، كقوله في التحيات: ات ات التحى التحى، وفي السلام: أس أس، وقوله في التكبير: أكككبر، ونحو ذلك، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به(20) وربما كان إماماً فأفسدصلاة المأمومين(21) وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمهِ والوقيعة فيه، فجمع على نفسه تعذيبها وإضاعة الوقت والاشتغال بما ينقص أجره وفوات ما هو أنفع له وتعريض نفسه لطعن الناس فيه وتغرير الجاهل بالاقتداء به.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبى العاص قال: قلت يا رسول الله: إن الشيطان قد حال بينى وبين صلاتى يُلَبِّسُها علىَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ذاك شيطان يقال له: خنـزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاث] ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عنى(22).
وفي [المسند] و[السنن] من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا، وقال: [هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم] (23).
وقد رواه الإمام أحمد في ]مسنده[ مرفوعا، ولفظه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يجزئ من الغسل الصاع، ومن الوضوء المد] (24).
وفي [سنن النسائى] عن عبيد بن عمير أن عائشة رضى الله عنها قالت: لقد رأيتنى أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا - فإذا تور (إناء) موضوع مثل الصاع أو دونه - نشرع فيه جميعا فأفيض بيدى على رأسى ثلاث مرات وما أنقض لي شعراً (25).
وقال محمد بن عجلان: الفقه في دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء.
وقال الإمام أحمد: كان يقال من قلة فقه الرجل ولعه بالماء.
وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد: نزيد على ثلاث في الوضوء؟ فقال: لا والله إلا رجل مبتلى (أى مريض بالوسواس). وقد روى أبو دواد في سننه من حديث عبد الله بن مغفل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء](26). فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] [البقرة:190]، وعلمت أن الله يحب عبادته، أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادة يقبلها الله تعالى، وإن أسقطت الفرض عنه.
فصـــــل
ومن ذلك الوسواس في انتفاض الطهارة لا يلتفت إليه.
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أويجد ريحاً] (27).
وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال: شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة، قال: [لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً] (28).
وفي [المسند] و[سنن أبو داود] عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن الشيطان يأتى أحدكم وهو في الصلاة فيأخذ بشعره من دبره فيمدها فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريح].
ولفظ أبى داود: [إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له: إنك قد أحدثت فليقل له كذبت إلا ما وجد ريحا بأنفه أو سمع صوتا بأذنه](29).
فأمر صلى الله عليه وسلم بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه، فكيف إذا كان كذبه معلوما متيقنا كقوله للموسوس: لم تفعل كذا، وقد فعله؟
قال الشيخ أبو محمد: ويستحب للإنسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال، ليدفع عن نفسه الوسوسة(30) فمتى وجد بللاً قال: هذا من الماء الذي نضحته، لما روى أبو داود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي أوالحكم بن سيفان قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا بال توضأ وينتضح. وفي رواية: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم نضح فرجه. (رواه أبو داود - حديث صحيح). وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء فأمره أن ينضح فرجه إذا بال قال: ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه.
فصـــــل
ومن هذا ما يفعله كثير من الموسوسين بعد البول وهو عشرة أشياء:
السلت، والنتر، والنحنحة، والمشى، والقفز، والحبل، والتفقد، والوجور، والحشو، والعصابة، والدرجة.
أما السلت فيسلته من أصله إلى رأسه.
والنحنحة ليستخرج الفضلة وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئاً ثم يجلس بسرعة.
والحبل يتخذ بعضهم حبلا يتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم ينخرط منه حتى يقعد.
والتفقد يمسك الذكر ثم ينظر في المخرج هل بقى فيه شئ أم لا؟
والوجور يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء.
والحشو يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها.
والعصابة يعصبه بخرقة.
والدرجة يصعد في سلم قليلا ثم ينـزل بسرعة.
والمشى يمشى خطوات ثم يعيد الاستجمار أو يغسل الذكر.
قال شيخنا: وذلك كله وسواس وبدعه.
وقال: والبول كاللبن في الضرع إن تركته قر، وإن حلبته در.
وقال: ومن اعتاد ذلك ابتلى منه بما عوفي منه من لها عنه.
فصـــــل
ومن ذلك أشياء سهل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة فشدد فيها هؤلاء.
فمن ذلك المشى حافيا في الطرقات ثم يصلى ولا يغسل رجليه، فقد روى أبو داود في سننه عن امرأة من بنى عبد الأشهل قالت: قلت: يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: [أو ليس بعدها طريق أطيب منها؟] قالت: بلى، قال: [فهذه بهذه](31).
وقال عبد الله بن مسعود: كنا لا نتوضأ من موطئ(32).
وعن على رضي الله عنه أنه خاض في طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى، ولم يغسل رجليه(33).
وسئل ابن عباس رضى الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة، قال: إن كانت يابسة فليس بشىء، وان كانت رطبة غسل ما أصابه(34).
وقال حفص: أقبلت مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد، فلما انتهينا عدلت إلى المظهرة لأغسل قدمىَّ من شئ أصابهما فقال عبد الله: لا تفعل فانك تطأ الموطئ الردىء ثم تطأ بعده الموطئ الطيب - أو قال: النظيف - فيكون ذلك طهورا، فدخلنا المسجد جميعا فصلينا.
وقال أبو الشعثاء: كان ابن عمر يمشى بمنى في الفروث(35) والدماء إليابسة حافيا ثم يدخل المسجد فيصلى فيه ولا يغسل قدميه(36).
وقال عاصم الأحول: أتينا أبا العإلية فدعونا بوَضُوء، فقال:ما لكم ألستم متوضئين؟ قلنا: بلى ولكن هذه الأقذار التى مررنا بها، قال: هل وطئتم على شئ رطب تعلق بأرجلكم؟ قلنا: لا، فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار يجف فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم؟
فصـــــل
ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزأ دلكه بالأرض مطلقا، وجازت الصلاة فيه بالسنة الثابتة. نص عليه أحمد، واختاره المحققون من أصحابه(37).
قال أبو البركات(38) ورواية أجزأ الدلك مطلقاً هى الصحيحة عندى، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور. وفي لفظ: إذا وطئ أحدكـم الأذى بخفيه فطهورها التراب(39). رواهما أبو داود.
فصـــــل
وكذلك ذيل المرأة على الصحيح،(40) وقالت امرأة لأم سلمة: انى أطيل ذيلى، وامشى في المكان القذر، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يطهره ما بعده](41) رواه أحمد وأبو داود وقد رخص النبى صلى الله عليه وسلم للمرأة أن ترخى ذيلها ذراعا(42) ومعلوم أنه يصيبه القذر، ولم يأمرها بغسل ذلك، بل أفتاهن بأنه تطهره الأرض.
فصـــــل
ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين الصلاة في النعال، وهى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعلا منه وأمراً، فروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى في نعليه(43).
وقيل للإمام أحمد: أيصلى الرجل في نعليه؟ فقال: إىْ والله.
وترى أهل الوسواس إذا بلى أحدهم بصلاة الجنازة في نعليه قام على عقبيه كأنه واقف على الجمر حتى لا يصلى فيهما.
وفي حديث أبى سعيد الخدرى: [إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى على نعليه قذرا فليمسحه وليصل فيهما](44) وكان يسجد على التراب تارة وعلى الحصى تارة وفي الطين تارة حتى يرى أثره على جبهته وأنفه(45).
فصـــــل
ومن ذلك أن الناس في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا يأتون المساجد حفاة في الطين وغيره.
قال يحيى بن وثاب: قلت لابن عباس: الرجل يتوضأ يخرج إلى المسجد حافيا؟ قال: لا بأس به(46). وقال كميل بن زياد: رأيت عليا رضي الله عنه يخوض طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل
رجليه(47).
رجليه(47).
فصـــــل
ومن ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن المذى فأمر بالوضوء منه، فقال: كيف ترى بما أصاب ثوبى منه؟ قال: تأخذ كفاً من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصابه(48) رواه أحمد والترمذى والنسائى.
فجوز نضح ما أصابه المذى، كما أمر بنضح بول الغلام(49)
قال شيخنا: وهذا هو الصواب، لأن هذه نجاسة يشق الاحتزاز منها، لكثرة ما يصيب ثياب الشاب العزب.
فصـــــل
ومن ذلك إجماع المسلمين على ما سنه لهم النبى صلى الله عليه وسلم من جواز الاستجمار بالأحجار(50) في زمن الشتاء والصيف، مع أن المحل يعرق فينضح على الثوب، ولم يأمر بغسله.
وقال شيخنا: لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من المدة والقيح والصديد، قال: ولم يقم دليل على نجاسته.
وقال إسحاق بن راهويه(51) كل ما كان سوى الدم فهو عندى مثل العرق المنتن وشبهه ولا يوجب وضوءا.
ومن ذلك ما قاله أبو حنيفة أنه لو وقع بعر الفأر في حنطة فطحنت، أو في دهن مائع، جاز أكله ما لم يتغير لأنه لا يمكن صونه عنه، قال: فلو وقع في الماء نجسه.
وذهب بعض أصحاب الشافعى إلى جواز أكل الحنطة التى أصابها بول الحمير عند الدياس من غير غسل(52) قال: لأن السلف لم يحترزوا من ذلك(53).
وقالت عائشة رضي الله عنها: كنا نأكل اللحم، والدم خطوط على القدر(54).
وقد أباح الله عز وجل صيد الكلب وأطلق، ولم يأمر بغسل موضع فمه من الصيد ومعضه ولا تقويره، ولا أمر به ورسوله، ولا أفتى به أحد من الصحابة.
ومن ذلك ما أفتى به عبد الله بن عمر وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وسالم، ومجاهد، والشعبى، وإبراهيم النخعى والزهرى ويحيى بن سعيد الأنصارى، والحكم، والأوزاعى، ومالك وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والإمام أحمد في أصح الروايتين وغيرهم: أن الرجل إذا رأى على بدنه أو ثوبه نجاسة بعد الصلاة لم يكن عالما بها أو كان يعلمها لكنه نسيها، أو لم ينسها لكنه عجز عن إزالتها، أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه(55).