-->
28167049391839450

تاريخ الأمراض النفسية و العقلية

الخط
أبو قراط
بقراءة تاريخ الأمراض النفسية و العقليه يتضح لنا أنها مرت على العديد من المراحل و تطورت بالتدريج إلا أن أصبح علم النفس علم منفصل عن الطب .. 

فبعد أن كانت الأمراض النفسية والعقلية شرا مستطيرا ، وسيطرة من أرواح خبيثة ، وعمل من أعمال الشيطان ، وكأنها من صنع قوى خارقة أوجدتها ، فكأنها حدثت نتيجة لسخط الآلهة ، 
، أو إذا تم الشفاء منها وزالت ، فإنما يكون البرء منها نتيجة لرضا تلك الآلهة .

وبعد أن كان المرضى يحرقون أحياء في الشوارع ، نظرا لتلوثهم بهذه الأرواح الشريرة ، فكان ينظر إليهم أحيانا أنهم أناس مغضوب عليهم من الآلهة ، أو كان ينظر إليهم بوصفهم أناسا منبوذين
 ... ولهذا فكثيرا ما كانوا يقتلون تخلصا منهم ومن الشياطين التي تلبستهم ، أما المحظوظين منهم ، ممن كانوا يكابدون حالات الجنون أخف وطأة ، فكانوا يحاطون بالرعاية ، ومن مظاهر تلك الرعاية أنهم كانت ٍتخلع عليهم الألبسة المزركشة ، وتزين هاماتهم بأكاليل الغار.

بعد كل ذلك تطور هذا الفرع من الطب تدريجيا ، عندما جاء أبو قراط - في القرن الخامس قبل الميلاد  - وقال : ليكن معلوما أن المخ يحتوي على مناطق محددة هي مواطن اللذة ، والانشراح ، والمرح ، والميل إلى اللهو ، من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإنه يحتوي – في تلافيفه – على ما هناك من حزن ، وأسى ، وامتعاض ، وأسف ، وأنه بسبب ما يتعرض له الدماغ أحيانا من إعطاب ، يقع بعض الناس فرائس في شراك الجنون ، والهذيان ، وما يتعرض له الإنسان من مؤثرات ومخاوف تؤرقه ليل نهار ، ومصدر كل ذلك هو ما يصيب الدماغ من خلل .

ومن ملاحظات أبوقراط قوله ، مثلا ، إن أي عطب أو خلل يحصل بسبب صدمة معينة في أحد نصفي الدماغ ، يؤدي بدوره إلى حدوث تشنجات في الجانب الآخر من الجسم .
وقد قسم أبوقراط أنماط الجسم إلى أربعة هي :
1 – المزاج الدموي
2 – المزاج البلغمي
3 – المزاج الصفراوي
4 – المزاج السوداوي

وأضاف أبوقراط أن خصائص هذه الأمزجة ترتبط ارتباطا وثيقا بكل من البيئة الطبيعية – أي المناخ الجغرافي – وبتأثير العوامل الاجتماعية .
وقام أبوقراط بمحاولات حثيثة في معالجة الأمراض العقلية ، فلعلاج حالات الإدمان على الكحول مثلا ، أوصى باستخدام أسلوب العلاج بالتنفير : أي إحداث حالة من التقزز عند المريض ليبتعد عن الكحول وينفر منها ، وذلك بإعطاء المدمن جرعات من مادة مرة مقززة  أو عن طريق فصده وإسالة دمه وهو في حالة سكره ، ليرى دمه يسيل فيرتبط في ذهنه منظر دمه بما يتعاطاه من شراب مسكر ن وبذلك يكره المادة التي أدمنها . وكان يقترح علاجا لبعض المرضى عقليا ونفسيا بأن يغيروا أماكنهم ، فتغيير المكان ، كما اقترح ، من شأنه أن يغير من الذكريات المؤلمة ، فينسى المريض آلامه وهمومه .

وقد أدى سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى انحطاط في العلوم القديمة وتدهورها ، ولاسيما في الطب الذي أصابه الانتكاس والوهن . وكانت العصور الوسطى في أوربا فترة ظلام حالك ، حيث تم فيها إبعاد العلوم إلى زوايا الإهمال بسبب التعصب الديني آنذاك . ولكن بسبب ما تعرضت له حينذاك المراكز الثقافية الرومانية ، من حروب طاحنة ، ومن قحط وجدب ، ودمار وتدمير ، كل ذلك أدى إلى ركود العلم ، وتفشى الجهل ، وانتشار الظلام ، فصار الطب في قبضة قلة من الجهلة الذين كانوا لا يتورعون عن اتهام أي معترض على أساليبهم البالية في الطب تلك ، بالزندقة ، ومن ثم تعريضه إلى أفظع أنواع العقاب .

كان الاعتقاد السائد آنذاك أن الاضطرابات العقلية تصيب من يصاب بها بسبب مس من الشيطان يتخبطه ، فيتلبسه في إهابة ، أو أنها تنشأ نتيجة تعرض المرء للسحر الأسود ، أو التعرض للأرواح الشريرة ، وأن الشفاء من ذلك كله يكمن في وجوب تعذيب المرضى ، كما كان يظن المشعوذين واهمين .

ومن القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر ، وفي الشرق ، كان الطب يخطو نحو مزيد من الارتقاء ، وأن كثيرا من العلماء الأوربيين قد نجوا مما كان يتهدد حياتهم من بلدانهم ، فلجأوا إلى بلدان حوض البحر المتوسط ، وبلاد فارس ، وفي بعض المحميات العربية الأخرى .

وفي القرن السادس عشر مثلا كانت هناك أفران قد أعدت خصيصا لغرض معالجة المرضى عقليا ، وفي تلك الأفران كان يؤتى بالمريض فيدس رأسه في ذلك الفرن الساخن ، مع بعض الكلمات تقال له قبيل ذلك الإجراء الخالي من المسحة الإنسانية : " في هذا الفرن ستشفى سريعا ، فيه يكمن شفاؤك ، وسرعان ما سيرتد إليك عقلك " .
وفي عصر النهضة حققت العلوم الطبيعية والعلوم الطبية تقدما سريعا وملحوظا . وفي هذه الأثناء وجدت آراء أبوقراط في الطب طريقها إلى الانتعاش من جديد ، فلم يعد ينظر إلى المصابين بالأمراض العقلية بأن بهم أرواحا شريرة تلبستهم فأفسدتهم ، ألا أن هؤلاء المرضى كانوا موضع ملامة ، وكانوا يحتجزون عادة مع عتاة المجرمين .

وعندما بدأت النظرة الإنسانية ، والتطور في العلاج - في أوائل القرن التاسع عشر - ظهر في الأفق علماء وهبوا أنفسهم لخدمة وتقدم هذا العلم ... وفي أوروبا عامة ، وفي فرنسا خاصة - في القرن التاسع عشر - تطورت الاتجاهات نحو من يعانون من المرض النفسي أو العقلي تطورا كبيرا ، وذلك بفضل حملة جديدة حمل لواءها الطبيب الفرنسي " فيليب بينيل ، ومن بعده تلميذه " أسكويرول " الذي رفع في الطب النفسي شعار : ( أسعفوهم بالعلاج ، لا بالصدقات المتبوعة بالإزعاج ) ، ومنذ ذلك بدأ الناس ينظرون إليهم بأنهم أشخاص يحتاجون فعلا إلى علاج ، وعند ذاك تم تحويل السجون التي كانوا فيها يحتجزون ، إلى مستشفيات فيها يعالجون .

كان إنشاء مستشفيات متخصصة بالطب النفسي أن ترتب عليها معرفة ضخمة مكنت المختصين من استنباط نتائج جد ناجحة .
ففي عام ( 1822 ) كان الطبيب النفساني بيل قد وصف الشلل المستفحل لدى المريض وصفا دقيقا ، وقام أسكويرول بأول محاولة لتصنيف الأمراض النفسية ، وعرف خصائص أمراض الأوهام والهلوسات ، وأكد على أهمية العلامات الجسمية الدالة على مدى تدهور الحالات العقلية ، وذكر تشخيصات طبية تحقق منها هو أيضا ، وأكد كل من ديادوفسكي والينسكي دور العوامل البيئية في تسريع نشوء الذهانات والتسبب في وجودها لدى بعض الأفراد.

وفي القرن التاسع عشر كانت هناك مثل تلك الممارسات المستفظعة ، سارية المفعول وسائدة ، ومنها مثلا ، صب الماء البارد فوق رأس المريض وجسمه ، والفصد لإسالة الدم بغزارة ، والتدوير بسرعة كبيرة في مكائن خاصة أعدت خصيصا لهذا الغرض .
وبقي الحال كذلك إلى أن جاء الطبيب الألماني جريسنجر ( 1817 – 1868 ) الذي كان يصر على وجوب توجيه العناية في الطب النفسي إلى النواحي الجسمية في حالة نشوء الأمراض العقلية ، ومن هنا جاءت فكرة الدمج بين الطب النفسي والطب العام .

وفي نهاية القرن التاسع عشر طرأ تقدم ملحوظ في مجال البحوث الخاصة بفسلجة الجهاز العصبي وتشريحه ومعرفة وظائفه . كل ذلك أفضى إلى اكتشاف الوظائف الحركية في أنحاء متفرقة من أنسجة الجسم ، وأدى إلى التعرف على الإنعكاسات الحاصلة في الجملة العصبية من الجسم ، الأمر الذي أدى إلى تقدم ظاهر في مجالات علم النفس عامة والطب النفسي خاصة .

وما إن شارف القرن التاسع عشر على نهايته حتى كان هناك أطباء في ميدان الطب النفسي أمثال بلنسكي ( 1827 – 1902 ) من روسيا ، الذي قسم الأمراض العقلية إلى أمراض عصبية واضطرابات عقلية ، وكاندنسكي ( 1849 – 1889 ) الذي أدخل موضوع التحليل الفسيولوجي في تشخيص الاضطرابات العقلية ، وكورساكوف ( 1824 – 1900 ) الذي اكتشف بعض الأمراض العقلية والنفسية كالذهان العصبي المتعدد ، وهذا النوع من الذهان ينجم عادة من تعاطي الكحول وإدمانها ، حتى أن أصبح هذا المرض يعرف باسم(ذهان كورساكوف) .

وهناك إنجاز أخر تحقق على يدي كورساكوف ، ذلك هو التمييز بين نوعين من الضعف العقلي ( الضعف العقلي الولادي ، والضعف العقلي الطارئ الناجم عن أحداث البيئة بمختلف أعراضها وعوارضها )  وميز بين ( الضعف العقلي الولادي ، وبين ذهان الهوس الاكتئابي ) .

كل هذه التطورات قد رسخت مكانتها الجهود التي قام بها الطبيب النفساني الألماني كريبلن ( 1856  - 1926 ) ، إذ أنه عزز ما كان هناك من تصنيفات للأمراض العقلية وأكد عليها ، وبين كيف يمكن التصدي لمعالجتها للتخفيف مما يتعرض لويلاتها كثير من الناس في أنحاء العالم .
ولعل أكبر إسهام في ميدان الطب النفسي هو ما قام به الطبيب النفساني الألماني المرموق بونهايفر ( 1868 – 1948 ) الذي أكد على العوامل الخارجية التي تبدو أعراضها على المريض فيستشفي منها ومما يكمن وراءها من عوامل داخلية . وإذا ما أهملت هذه الأعراض فإنها تتفاعل فيما بينها فتفضي إلى ما يضر بالصحة النفسية والجسمية للمريض ، فتنشأ عن ذلك متلازمات Syndroms تحمل في طياتها أمراضا عقلية غير محددة ، تتخلخل من جرائها قوى العقل ، ولاسيما الجوانب اللاشعورية منه .

سأستكمل باقي تاريخ الامراض النفسية و العقليه في وقت لاحق ....


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

نموذج الاتصال
الاسمبريد إلكترونيرسالة