أبو قراط
بقراءة تاريخ الأمراض النفسية و العقليه يتضح لنا أنها مرت على العديد من المراحل و تطورت بالتدريج إلا أن أصبح علم النفس علم منفصل عن الطب ..
فبعد أن كانت
الأمراض النفسية والعقلية شرا مستطيرا ، وسيطرة من أرواح خبيثة ، وعمل من أعمال
الشيطان ، وكأنها من صنع قوى خارقة أوجدتها ، فكأنها حدثت نتيجة لسخط الآلهة ،
،
أو إذا تم الشفاء منها وزالت ، فإنما يكون البرء منها نتيجة لرضا تلك الآلهة .
وبعد أن كان
المرضى يحرقون أحياء في الشوارع ، نظرا لتلوثهم بهذه الأرواح الشريرة ، فكان ينظر
إليهم أحيانا أنهم أناس مغضوب عليهم من الآلهة ، أو كان ينظر إليهم بوصفهم أناسا
منبوذين
... ولهذا فكثيرا ما كانوا يقتلون تخلصا منهم ومن الشياطين التي تلبستهم ،
أما المحظوظين منهم ، ممن كانوا يكابدون حالات الجنون أخف وطأة ، فكانوا يحاطون
بالرعاية ، ومن مظاهر تلك الرعاية أنهم كانت ٍتخلع عليهم الألبسة المزركشة ، وتزين
هاماتهم بأكاليل الغار.
بعد كل ذلك تطور
هذا الفرع من الطب تدريجيا ، عندما جاء أبو قراط - في القرن الخامس قبل الميلاد - وقال : ليكن معلوما أن المخ يحتوي على مناطق
محددة هي مواطن اللذة ، والانشراح ، والمرح ، والميل إلى اللهو ، من جهة ، ومن جهة
أخرى ، فإنه يحتوي – في تلافيفه – على ما هناك من حزن ، وأسى ، وامتعاض ، وأسف ،
وأنه بسبب ما يتعرض له الدماغ أحيانا من إعطاب ، يقع بعض الناس فرائس في شراك
الجنون ، والهذيان ، وما يتعرض له الإنسان من مؤثرات ومخاوف تؤرقه ليل نهار ،
ومصدر كل ذلك هو ما يصيب الدماغ من خلل .
ومن ملاحظات
أبوقراط قوله ، مثلا ، إن أي عطب أو خلل يحصل بسبب صدمة معينة في أحد نصفي الدماغ
، يؤدي بدوره إلى حدوث تشنجات في الجانب الآخر من الجسم .
وقد قسم أبوقراط أنماط الجسم إلى أربعة هي :
1 – المزاج الدموي
2 – المزاج البلغمي
3 – المزاج الصفراوي
4 – المزاج السوداوي
وأضاف أبوقراط
أن خصائص هذه الأمزجة ترتبط ارتباطا وثيقا بكل من البيئة الطبيعية – أي المناخ
الجغرافي – وبتأثير العوامل الاجتماعية .
وقام أبوقراط
بمحاولات حثيثة في معالجة الأمراض العقلية ، فلعلاج حالات الإدمان على الكحول مثلا
، أوصى باستخدام أسلوب العلاج بالتنفير : أي إحداث حالة من التقزز عند المريض
ليبتعد عن الكحول وينفر منها ، وذلك بإعطاء المدمن جرعات من مادة مرة مقززة أو عن طريق فصده وإسالة دمه وهو في حالة سكره ،
ليرى دمه يسيل فيرتبط في ذهنه منظر دمه بما يتعاطاه من شراب مسكر ن وبذلك يكره
المادة التي أدمنها . وكان يقترح علاجا لبعض المرضى عقليا ونفسيا بأن يغيروا
أماكنهم ، فتغيير المكان ، كما اقترح ، من شأنه أن يغير من الذكريات المؤلمة ،
فينسى المريض آلامه وهمومه .
وقد أدى سقوط
الإمبراطورية الرومانية إلى انحطاط في العلوم القديمة وتدهورها ، ولاسيما في الطب
الذي أصابه الانتكاس والوهن . وكانت العصور الوسطى في أوربا فترة ظلام حالك ، حيث
تم فيها إبعاد العلوم إلى زوايا الإهمال بسبب التعصب الديني آنذاك . ولكن بسبب ما
تعرضت له حينذاك المراكز الثقافية الرومانية ، من حروب طاحنة ، ومن قحط وجدب ،
ودمار وتدمير ، كل ذلك أدى إلى ركود العلم ، وتفشى الجهل ، وانتشار الظلام ، فصار
الطب في قبضة قلة من الجهلة الذين كانوا لا يتورعون عن اتهام أي معترض على
أساليبهم البالية في الطب تلك ، بالزندقة ، ومن ثم تعريضه إلى أفظع أنواع العقاب .
كان الاعتقاد
السائد آنذاك أن الاضطرابات العقلية تصيب من يصاب بها بسبب مس من الشيطان يتخبطه ،
فيتلبسه في إهابة ، أو أنها تنشأ نتيجة تعرض المرء للسحر الأسود ، أو التعرض
للأرواح الشريرة ، وأن الشفاء من ذلك كله يكمن في وجوب تعذيب المرضى ، كما كان يظن
المشعوذين واهمين .
ومن القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر ، وفي الشرق ، كان الطب يخطو
نحو مزيد من الارتقاء ، وأن كثيرا من العلماء الأوربيين قد نجوا مما كان يتهدد
حياتهم من بلدانهم ، فلجأوا إلى بلدان حوض البحر المتوسط ، وبلاد فارس ، وفي بعض
المحميات العربية الأخرى .
وفي القرن السادس عشر مثلا كانت هناك أفران قد أعدت خصيصا لغرض معالجة
المرضى عقليا ، وفي تلك الأفران كان يؤتى بالمريض فيدس رأسه في ذلك الفرن الساخن ،
مع بعض الكلمات تقال له قبيل ذلك الإجراء الخالي من المسحة الإنسانية : " في
هذا الفرن ستشفى سريعا ، فيه يكمن شفاؤك ، وسرعان ما سيرتد إليك عقلك " .
وفي عصر النهضة
حققت العلوم الطبيعية والعلوم الطبية تقدما سريعا وملحوظا . وفي هذه الأثناء وجدت
آراء أبوقراط في الطب طريقها إلى الانتعاش من جديد ، فلم يعد ينظر إلى المصابين
بالأمراض العقلية بأن بهم أرواحا شريرة تلبستهم فأفسدتهم ، ألا أن هؤلاء المرضى
كانوا موضع ملامة ، وكانوا يحتجزون عادة مع عتاة المجرمين .
وعندما بدأت النظرة الإنسانية ، والتطور في العلاج - في أوائل القرن
التاسع عشر - ظهر في الأفق علماء وهبوا أنفسهم لخدمة وتقدم هذا العلم ... وفي أوروبا عامة
، وفي فرنسا خاصة - في القرن التاسع عشر - تطورت الاتجاهات نحو من يعانون من المرض
النفسي أو العقلي تطورا كبيرا ، وذلك بفضل حملة جديدة حمل لواءها الطبيب الفرنسي
" فيليب بينيل ، ومن بعده تلميذه " أسكويرول " الذي رفع في الطب
النفسي شعار : ( أسعفوهم بالعلاج ، لا بالصدقات المتبوعة بالإزعاج ) ، ومنذ ذلك
بدأ الناس ينظرون إليهم بأنهم أشخاص يحتاجون فعلا إلى علاج ، وعند ذاك تم تحويل
السجون التي كانوا فيها يحتجزون ، إلى مستشفيات فيها يعالجون .
كان إنشاء
مستشفيات متخصصة بالطب النفسي أن ترتب عليها معرفة ضخمة مكنت المختصين من استنباط
نتائج جد ناجحة .
ففي عام ( 1822 ) كان الطبيب النفساني بيل قد وصف الشلل المستفحل لدى
المريض وصفا دقيقا ، وقام أسكويرول بأول محاولة لتصنيف الأمراض النفسية ، وعرف
خصائص أمراض الأوهام والهلوسات ، وأكد على أهمية العلامات الجسمية الدالة على مدى
تدهور الحالات العقلية ، وذكر تشخيصات طبية تحقق منها هو أيضا ، وأكد كل من
ديادوفسكي والينسكي دور العوامل البيئية في تسريع نشوء الذهانات والتسبب في وجودها
لدى بعض الأفراد.
وفي القرن
التاسع عشر كانت هناك مثل تلك الممارسات المستفظعة ، سارية المفعول وسائدة ، ومنها
مثلا ، صب الماء البارد فوق رأس المريض وجسمه ، والفصد لإسالة الدم بغزارة ،
والتدوير بسرعة كبيرة في مكائن خاصة أعدت خصيصا لهذا الغرض .
وبقي الحال كذلك
إلى أن جاء الطبيب الألماني جريسنجر ( 1817 – 1868 ) الذي كان يصر على وجوب
توجيه العناية في الطب النفسي إلى النواحي الجسمية في حالة نشوء الأمراض العقلية ،
ومن هنا جاءت فكرة الدمج بين الطب النفسي والطب العام .
وفي نهاية القرن
التاسع عشر طرأ تقدم ملحوظ في مجال البحوث الخاصة بفسلجة الجهاز العصبي وتشريحه
ومعرفة وظائفه . كل ذلك أفضى إلى اكتشاف الوظائف الحركية في أنحاء متفرقة
من أنسجة الجسم ، وأدى إلى التعرف على الإنعكاسات الحاصلة في الجملة العصبية من
الجسم ، الأمر الذي أدى إلى تقدم ظاهر في مجالات علم النفس عامة والطب النفسي خاصة
.
وما إن شارف
القرن التاسع عشر على نهايته حتى كان هناك أطباء في ميدان الطب النفسي أمثال
بلنسكي ( 1827 – 1902 ) من روسيا ، الذي قسم الأمراض العقلية إلى أمراض عصبية
واضطرابات عقلية ، وكاندنسكي ( 1849 – 1889 ) الذي أدخل موضوع التحليل الفسيولوجي
في تشخيص الاضطرابات العقلية ، وكورساكوف ( 1824 – 1900 ) الذي اكتشف بعض الأمراض
العقلية والنفسية كالذهان العصبي المتعدد ، وهذا النوع من الذهان ينجم عادة من
تعاطي الكحول وإدمانها ، حتى أن أصبح هذا المرض يعرف باسم(ذهان كورساكوف) .
وهناك إنجاز أخر
تحقق على يدي كورساكوف ، ذلك هو التمييز بين نوعين من الضعف العقلي ( الضعف العقلي
الولادي ، والضعف العقلي الطارئ الناجم عن أحداث البيئة بمختلف أعراضها وعوارضها
) وميز بين ( الضعف العقلي الولادي ، وبين
ذهان الهوس الاكتئابي ) .
كل هذه التطورات قد رسخت مكانتها الجهود التي قام بها الطبيب النفساني
الألماني كريبلن ( 1856 - 1926 ) ، إذ أنه
عزز ما كان هناك من تصنيفات للأمراض العقلية وأكد عليها ، وبين كيف يمكن التصدي
لمعالجتها للتخفيف مما يتعرض لويلاتها كثير من الناس في أنحاء العالم .
ولعل أكبر إسهام
في ميدان الطب النفسي هو ما قام به الطبيب النفساني الألماني المرموق بونهايفر (
1868 – 1948 ) الذي أكد على العوامل الخارجية التي تبدو أعراضها على المريض
فيستشفي منها ومما يكمن وراءها من عوامل داخلية . وإذا ما أهملت هذه الأعراض فإنها
تتفاعل فيما بينها فتفضي إلى ما يضر بالصحة النفسية والجسمية للمريض ، فتنشأ عن
ذلك متلازمات Syndroms
تحمل في طياتها أمراضا عقلية غير محددة ، تتخلخل من جرائها قوى العقل ، ولاسيما
الجوانب اللاشعورية منه .
سأستكمل باقي
تاريخ الامراض النفسية و العقليه في وقت لاحق ....
إرسال تعليق